فصل: تفسير الآية رقم (93):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (92):

{وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)}
إذن: فالمعفوْن من الجهاد هم: الضعيف والمريض، والذي لا يجد قوتاً، ولا يجد راحلة؛ فيطلبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له رسول الله: {لاَ أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} ومن في مثل هذه الحالة يحزن مرتين ولا يفرح؛ الحزن الأول: بسبب عجز المسلمين في ذلك الوقت أن يملكوا ما ينهض بنفقات المقاتلين أو أن يجهزوا لهم وسائل الانتقال إلى ميدان القتال، والحزن الثاني: بسبب عدم تواجده في ميدان القتال مشاركاً ومجاهداً، ولا يبقى له إلا مشاركة الاستطاعة بجهاد يختلف عن الجهاد في ميدان القتال.
إنه جهاد حماية القاعدين من إشاعات المنافقين. ذلك أن المنافقين لن يسكتوا عن محاربة الإيمان، بل سيرجفون بنقل الأخبار الكاذبة إلى أهالي المقاتلين، وهم من نسميهم في الاصطلاح الحديث (الطابور الخامس)، وهم من يُثبِّطون همم ومعنويات أهالي المقاتلين. إذن: فمن قعد عن القتال بسبب عذر حقيقي فله جهاد آخر في حماية الجبهة الداخلية من أهالي المقاتلين في مواجهة حرب الإشاعات التي يقودها المنافقون.
وهكذا نجد الجهاد فريضة من فرائض الإسلام، ومجاهدة غير المسلمين تكون لأمرين: الأمر الأول: حين يعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الداعي ليسكتوه عن الدعوة إلى الله، والأمر الثاني: أن ينتشر المسلمون في الأرض ليُعْلوا كلمة الله، ليس إكراهاً عليها، فالدين لا إكراه فيه، والسيف الذي حُمل في الإسلام، لم يُحمل ليفرض ديناً، وإنما حُمل ليكفل حرية الاختيار الإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بلا إكراه. وتحرير اختيار الإنسان؛ إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه ديناً آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها، فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه.
إذن: فالإسلام لم يفرض بالسيف، وإلا فمن الذي فرض الإسلام على الذين سبقوا إليه حين كان ضعيفاً لا يملك أن يحمي من دخل فيه؟!
وما دام الجهاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد، إما فرض عين- إن غلب المؤمنون على أمر مكروه، وإما فرض كفاية- إن قام به البعض سقط عن الباقين. ولم يعذر الله من الجهاد إلا هذه الطوائف؛ الضعفاء بشيخوخة أو صغَر، والمرضى أصحاب الداءات، والذين لا يجدون ما ينفقون، وهم قسمان: قسم لا يجد ما ينفقه على نفسه، وقسم لا يجد ما ينفقه على الحرب، أي: لا يجد أدوات القتال أو الراحلة التي يركبها.
ورفع الحق سبحانه الحرج عن هؤلاء، ووظَّفهم سبحانه في وظيفة إيمانية تخدم الجهاد بأن يكونوا في عون أهل المجاهدين، ويقمعوا المرجفين الذين يريدون النيل من الروح المعنوية للمسلمين، وأن يردوا عليها، ويخرسوا ألسنة السوء، هذا بالنسبة للذين لا يجدون ما ينفقونه على أنفسهم خلال الجهاد من طعام وسلاح وغير ذلك.
أما الذي يجد ما ينفق، ولا يجد الوسيلة التي تنقله إلى ساحة القتال؛ فعليه أن يذهب إلى ولي الأمر ليسأله الراحلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قائد الجهاد في حياته، فإن قال لأحد: ليس عندي ما أنقلك عليه إلى مكان القتال. فهذا إذن بالقعود، لكنه إذن لا يكفي لرفع الحرج عنه، بل يجب أن يعلن بوجدانه انفعاله في حب الجهاد، وحزنه على أنه لم يكن مع الذين يجاهدون.
ولذلك قال الحق: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ} وكلمة (تفيض أعينهم) توضح ما في قلب هؤلاء المؤمنين. والفيض دائماً للدموع، والدموع هي ماء حول العين؛ يهيجه الحزن فينزل، فإذا اشتد الحزن ونفد الدمع وجمدت العين عن البكاء؛ يؤخذ من سائل آخر فيقال: (بكيت دما).
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا شدة حزن المؤمنين على حرمانهم من الجهاد، فلم يقل سبحانه وتعالى: (فاضت دموعهم)، ولم يقل: (بكوا دماً بدل الدموع)، وإنما قال: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ}، فكأن العين ليس فيها ماء، ولا دم، ولم يعد إلا أن تفيض العين على الخد، وذلك إظهار لشدة الحزن في القلب، وهذا المجاهد لا لوم عليه ولا ذنب؛ لأنه فعل ما في وسعه وما في طاقته وعبر عن ذلك بحرقة مواجيده على أنه لم يكن من أهل الجهاد.
ثم يقول الحق سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى...}.

.تفسير الآية رقم (93):

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)}
هناك قال سبحانه: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} الذين كانت لهم أعذارهم في التخلف عن الجهاد، ولكن كانوا محسنين في تخلفهم هذا فقال تعالى: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ}. إذن: فعلى من يكون السبيل؟
وهنا تأتي إجابة الحق سبحانه: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ}.
أي: أن طريق الإثم واللوم والتعنيف والتوبيخ إنما يتجه إلى هؤلاء الأغنياء الذين استأذنوا في أن يقعدوا عن القتال، ونعلم أن الغني إذا أطلق ينصرف إلى غنى المال، ولكن الغني إذا جاء بالمعنى الخاص، يكون معناه ما يدل عليه النص. فالذي لا يجد ما ينفقه أعْفيَ. إذن: فمن يجد ما ينفقه فهو غنيّ بطعامه. والضعيف قد أعفيَ، إذن: فالقويّ غنيّ بقوته. والمريض أعْفيَ، إذن: فالصحيح غنيّ بصحته، ومن لا يجد ما ينقله إلى مكان الجهاد قد أعفيَ، إذن: فمن يملك راحلة فهو غنيّ براحلته.
وعلى ذلك لا تأخذ كلمة (الغنى) على المال فقط، بل انظر إلى من تنطبق عليه شروط الجهاد؟ إذن: فاللوم والتوبيخ والتعنيف والإثم على الأغنياء بهذه الأشياء، وطلبوا أن يقعدوا عن الجهاد.
ولسائل أن يقول: ولماذا يستأذنون وهم أغنياء؟
نقول: لأنهم منافقون، وقد وضعهم نفاقهم في موضع الهوان، حتى قال الحق سبحانه وتعالى عنهم: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} ومن يَرضَ أن يكون وضعه مع الخوالف، فهو يتصف بدناءة النفس وانحطاط الهمة؛ فهم رضوا ان يُعاملوا معاملة النساء، والخوالف- كما نعلم- جاءت على مراحل، فهم قالوا: {ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين} [التوبة: 86].
وقلنا من قبل: إن القعود مقابل للقيام، والقيام من صفات الرجولة؛ لأن الرجل قَيَّم على أهله. والقعود للنساء، والخوالف ليست جمع خالف، وإنما هي جمع (خالفة)، ولا يجمع بها إلا النساء، وكذلك كلمة (القواعد) يقول سبحانه: {والقواعد مِنَ النسآء...} [النور: 60].
أي: أنهم ارتضوا لأنفسهم دناءة وخسة؛ فتنازلوا عن مهام الرجال، وارتضوا أن يكونوا مع النساء هرباً من القتال، والشاعر يقول:
وَمَا أدْرِي ولسْتُ إخَالُ أدْري ** أقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نسَاءُ

أي: (القوم) في مقابل (النساء).
ثم يعلمنا الحق سبحانه وتعالى بعقابهم، فيقول: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
وفي الآية السابقة يقول سبحانه: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ...} [التوبة: 87].
ما الفرق بين النصين؟
إذا رأيت فعلاً تكليفيّاً مبنيّاً للمجهول، كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ...} [البقرة: 216].
وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} [البقرة: 183].
قد يقول قائل: كان المفروض أن يقال: (كتب الله عليكم القتال) و(كتب الله عليكم الصيام)، لأنه صار أمراً لازماً مفروضاً، فكان الأولى أن يقول: كتب الله، أي أن الذي يفرض هو الله.
رغم أن الحق سبحانه هو الذي يكلف، إلا أن كل التكليفات تأتي بصيغة المبني للمجهول كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى...} [البقرة: 178].
وقوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين...} [البقرة: 180].
والسبب في ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف كافراً بأي تكليفات إيمانية؛ فسبحانه لم يكلف بأي حكم من أحكام الإيمان إلا من آمن به وأسلم له؛ لذلك فعندما يخاطب سبحانه بالتكليف يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ...} [البقرة: 178].
ومن هذا نعلم أنه سبحانه لم يكتب فرضاً أو مهمة على من لم يؤمن، والإنسان يدخل في الإيمان باختياره، فإذا دخل في الإيمان كتب الله عليه. إذن: فالإيمان هو مدخل الفريضة. وما دُمْتَ قد آمنتَ فقد أصبحتَ طرفاً فيما فرضه الحق سبحانه وتعالى عليك؛ لأنك لو لم تؤمن فليست عليك فرائض، إذن: فأنت الذي ألزمتَ نفسك بحكم الله؛ لأنك آمنت به إلهاً خالقاً معبوداً. وبإيمانك أنت؛ فرض الله عليك، فأنت طرف في كل فريضة عليك. ورغم أنه سبحانه وتعالى هو الذي فرض، فقد أحبَّ فيك أنك دخلْتَ في نطاق التكليف بإيمانك؛ فبنى الفعل للمجهول.
وإذا جئنا إلى قوله سبحانه وتعالى: {وَطَبَعَ على قُلُوبِهِمْ} نجد أن الحق يلفتنا هنا إلى أن المنافقين هم الذي جلبوا لأنفسهم هذا الطبع على القلوب؛ لأنهم وضعوا في قلوبهم الكفر، ثم أخذوا يتحدثون بألسنتهم عن الإيمان، ويحاولون خداع المؤمنين، ويخادعون الله؛ فأراد الله سبحانه وتعالى أن يوضح لهم: ما دمتم قد اخترتم النفاق والكفر في قلوبكم؛ فسنطبع على هذه القلوب، ونختم عليها حتى لا يخرج الكفر منها ولا يدخل إليها الإيمان.
فسبحانه وتعالى- إذن- هو الذي طبع على قلوبهم، ولكن بعد أن ملأوا قلوبهم بالكفر ونافقوا، وهم الذين تسببوا بهذا الطبع لأنفسهم، بعد أن بدأوا بالكفر، فطبع الحق سبحانه وتعالى على قلوبهم بما فيها من مرض، ولو لم يبدأوا بالكفر لما طبع الله على قلوبهم؛ ولهذا جاء الفعل مبيّناً للمجهول، فهم مشتركون فيه.
أما الآية التي نحن بصددها فيقول تعالى: {وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} وساعة ينسب الطَّبْع إلى الله يكون أقوى طبع على القلوب، ويأتي الطبع من الله سبحانه وتعالى كحكم نهائي من أن الله قضى عليهم به، فلا يخرج من قلوبهم ولو كان قدراً ضئيلاً من النفاق، ولا تغادر قلوبهم ذرة من كفر، ولا يتسرب إلى قلوبهم ذرة من إيمان؛ لأنهم لا يعلمون قدر الإيمان الحق، والإنسان قد لا يفهم شيئاً، أي: لا يفقهه. ولكن قد يفهمه غيره ويعلمه هو عنه.
لذلك فنفي الفقه أو الفهم لا ينفي العلم، ولكن حين ينفي العلم فهو ينفي الفهم عن الذات، وينفي الفهم عن الغير، ولذلك حين يقال: {لاَ يَفْقَهُونَ} أي: لا يفهمون بذواتهم، ولكن قد يتعلمون العلم من غيرهم.
أما إذا قلنا: {لاَ يَعْلَمُونَ} فالمقصود أنهم يفهمون ولا يتعلمون. إذن: نفي العلم ينسب إلى طبع الله على قلوبهم، أما نفي الفقه فينسب نسبة عامة للفعل المبني للمجهول.
فعندما نفى الحق سبحانه وتعالى الفقه عنهم بالفعل المبني للمجهول أوضح أنهم بنفاقهم لا يفقهون، ولكنه سبحانه وتعالى لم يَنْف احتمال أن يعلموا من غيرهم في المستقبل. ولكن عندما قال الحق: {فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} قد نفى عنهم- أيضاً- العلم بذواتهم، وكذلك نفى قدرتهم على العلم من غيرهم، وهذه أقوى أثراً، وبذلك يكون الطبع على قلوبهم أقوى؛ لأنهم رفضوا العلم من ذواتهم ورفضوه من غيرهم.
ولذلك نجد {لاَ يَفْقَهُونَ} في موضع، ونجد {لاَ يَعْلَمُونَ} في موضع آخر، وكلُّ تناسب موقعها الذي قيلت فيه.
ثم يقول سبحانه: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ...}.

.تفسير الآية رقم (94):

{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}
ومعنى (يعتذر) أي: يبدي عذراً عن شيء يُخرجه من اللوم أو التوبيخ، ويقال: (اعتذر فلان) أي: فعل شيئاً مظنة أنه ذم، فيريد أن يعتذر عنه. والحق هنا يقول: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} وفي آية سابقة يقول مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ...} [التوبة: 83].
وهكذا نلاحظ أنه سبحانه حين نسب الرجوع إلى الصحابة والمجاهدين قال: {رَجَعْتُمْ}، وعندما نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} مما يدلنا على أن زمام محمد صلى الله عليه وسلم بيد ربه وحده، ولكن زمام أتباعه يكون باختيارهم.
وهنا يقول الحق: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} ويأتي بعدها ذلك الرد الواضح على محاولة المنافقين في الاعتذار: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ}، وفي هذا رد حاسم، فأنت حين يعتذر إليك إنسان فقد تستمع لعذره ولكنك لا تقبله، ومجرد استماعك للعذر معناه أن هناك احتمالاً في أن يكون هذا العذر مقبولاً أو مرفوضاً، ولكن حين ترفض مجرد سماع العذر، فمعنى ذلك ألاَّ وجه للمعذرة.
والحق سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} فكأنما ساعة أقبل المنافقون على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرمنين؛ وتهيأوا للاعتذار؛ وقبل أن ينطقوا بالعذر؛ أوضح لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: لا تعتذروا، ورفض مجرد إبدائهم للعذر. ثم فاجأهم بالحكم في قوله تعالى: {لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} ومادة (آمن) تدور حول عدة معان، نقول (آمن) أي: اعتقد وصدق مثل قولنا: (آمن بالله)، ويقال: (آمن بالشيء) أي: صدَّقه، و(آمن بكذا) أي: صدَّق ما قيل. والحق هو القائل: {فَمَآ آمَنَ لموسى...} [يونس: 83].
وقال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17].
أي: لن تصدقنا. وآمن إذا تعدَّت بالباء فمعناها الاعتقاد، وإن تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدت بغير الباء وغير اللام فمعناها إعطاء الأمان، مثل قوله تعالى: {فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3-4].
وتجيء أيضاً (آمن) و(أمن) بمعنى الائتمان، مثل قول الحق سبحانه وتعالى على لسان يعقوب: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ...} [يوسف: 64].
إذن: ف (آمن) إن تعدت بالباء فيكون معناها الاعتقاد الإيماني، وإنْ تعدَّتْ باللام فمعناها التصديق، وإن تعدَّتْ بنفسها إلى الفعل فهي إعطاء الأمان والسلام والاطمئنان، وإن تعدت بالمفعول أيضاً؛ فمعناها القدرة على أداء الأمانات، مصداقاً لقوله الحق: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً...} [آل عمران: 75].
وفي الآية التي نحن بصددها يقول الحق سبحانه وتعالى: {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} أي: لن نصدقكم. فقد جاء المنافقون ليعتذروا بأعذار كاذبة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفض مجرد سماع الاعتذار، وأعلن لهم: لن نصدقكم. ولو امتلك المنافقون ذرة من ذكاء لفهموا أن رب محمد عليه الصلاة والسلام قد أخبره بكل شيء؛ حتى بما في قلوبهم قبل أن ينطقوه، ولو امتلكوا ذرة من فطنة لرجعوا عن نفاقهم، ولدخلوا في الإيمان، ولكنهم لم يستوعبوا الدرس، فجاء الحق سبحانه وتعالى بالأمر واضحاً في قوله سبحانه: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} فكأن المسألة ليست فراسة استنتاج، ولكنها وحي من الله.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}.
ما هو العمل الذي سيراه الله سبحانه وتعالى ورسوله، بعد أن رفض رسول الله عذرهم، وأخبرهم بأن الله قد أخبره بما يُخْفونه من كذب في صدورهم؟ فسبحانه العالم بالسرائر كلها، لقد شاء سبحانه ألا يغلق أمامهم باب المرجع إليه، وكان يجب من بعد ذلك أن يرتدعوا وأن يتيقنوا أن رب محمد صلى الله عليه وسلم لا تخفى عليه حتى نواياهم. وما دُمْتم قد علمتم صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أبلغكم به، أصبح عليكم- إذن- أن ترجعوا وتخرجوا من دائرة النفاق لتدخلوا حظيرة الإيمان؛ وتراكم الدنيا من بعد ذلك وقد اختلفت أعمالكم من النفاق إلى الإيمان، أما إن أصررتم على ما أنتم فيه؛ فمعنى ذلك أنكم لم تستفيدوا من العملية الإعجازية التي أنبأ الله فيها رسوله بكذبكم.
إذن: فقد فتح الله باب التوبة أمامكم رحمة منه سبحانه، فانتهزوا هذه الفرصة؛ لأنه سبحانه سيرى أعمالكم في المستقبل، وعلى أساس هذه الرؤية يرتب لكم الجزاء على ما يكون منكم.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 94].
وما دام سبحانه عالم الغيب، فمن باب أوْلى أنه عليم بعالم الشهادة. والغيب- كما نعرف- هو ما غاب عنك، فلم تعرف عنه شيئاً. ولكن إنْ غاب عنك ولم يَغِبْ عن غيرك فهو غّيْبٌ نسبي؛ لأن هناك حجباً منعت عنك العلم، والمثَال: إن سُرق منك شيء فأنت لا تعرف السارق؛ ولكن السارق نفسه يعرف، ومن شاركه يعرف. والذي أخفى السارق عنده المسروقات يعرف. والذي ابتاع المسروقات يعرف.
إذن: فهو غيب عنك وليس غيباً على غيرك. أما الغيب المطلق فهو ما غاب عنك وعن غيرك، وهناك من يلجأ إلى الدجالين ممن يدّعون قراءة الأفكار، ويسمونهم المنوِّمين المغناطيسيين، ويطلب المنوّم من أي واحد أن يُخرج ما في جيبه من نقود وأن يقوم بعدّها، ثم يخبره بعددها، وإن أردت أن تكشف ألاعيبه؛ ضع يدك في جيبك وأخرج كمية من النقود لا تعرف أنت مقدارها، واسأله عن هذا المقدار فلن يعرف، لماذا؟ لأنك نقلت المسألة من غيب قد يعرفه غيرك إلى غيب مطلق.
إذن: فالغيب المطلق هو ما غاب عنك عن غيرك، وهو أيضاً ما لا تكون له مقدمات توصلك إليه، فأنت إذا أعطيت ابنك تمريناً هندسيّاً ليحله؛ فالحل غيب عنه ساعة يقرأ المسألة، ثم يستخدم المقدمات والنظريات حتى يصل إلى الحل، فكأن هناك أشياء لها مقدمات توصل إلى النتائج، وهذه ليست غيباً؛ لذلك لا يقال لمن اكتشف الكهرباء والذي اكتشف تفتيت الذرة أنهما علما الغيب. فقد كانت هناك مقدمات في الكون أوصلتهما إلى كشف بعض القوانين الموجودة بالفعل، لكنّنا لم نكُنْ نعرفها.
وفي بعض التدريبات، نجد من يضع المسألة المطلوب حلّها، ويضع النتيجة الأخيرة بجانبها؛ لأنه لا يهدف إلى معرفة النتيجة، ولكنه يهدف لتعليم التلميذ كيف يصل إلى أسلوب الحل الصحيح.
ولذلك إذا أردت أن تحلّ شيئاً في الهندسة مثلاً، فلابد لك من معطيات توصلك إلى الحل؛ كأن يُطلب منك- مثلاً- إثبات أن الخطين متوازيان، وفي هذه الحالة يجب أن تكون كل زاويتين متناظرتين متساويتين، وكل زاويتين متبادلتين متساويتين. إذن: فانت قد أخذت مقدمات أو معطيات أوصلتك إلى النتيجة، وكذلك في تساوي ضلعي المثلث أو أضلاعه؛ يكون إثباته بتساوي الزوايا. فهل في هذه الحالة يقال: إنك اهتديت إلى الغيب؟ أم أنك استخدمت مقدمات أوصلتك إلى نتائج؟
وأنت حين تبرهن على صحة النظرية المباشرة، تقول: إن هذا يساوي هذا حسب النظرية رقم تسعة مثلاً، وإن هذا مقابل لهذا حسب النظرية الجديدة، وإذا وصلت في براهينك إلى نظرية رقم واحد فهي النظرية التي لا مقدمات لها، ولابد أن تكون بديهية.
وهكذا نجد أن كل علم في هذا الكون بُني على نظريات أو مقدمات بديهية، ثم تطورت بعد ذلك إلى اكتشاف ما أودعه الله في كونه من أسرار. أما الحق سبحانه وتعالى فهو يقول عن نفسه: {عَالِمِ الغيب والشهادة} أي أنه سبحانه عالم بالغيب المطلق، الذي لا توجد له مقدمات توصلنا إليه؛ ولذلك لا نستطيع أن نعرف الغيب المطلق؛ لأنه ليس معروفاً عند البعض، ومجهولاً عند غيرهم، وليس له مقدمات توصلنا إليه؛ لأنه الغيب الذي ينفرد به الحق عزّ وجلّ.
ونجد الحق سبحانه يقول: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ...} [الجن: 26-27].
فسبحانه عالم الغيب المطلق، وهو يختلف عن الغيب المستور عن البعض، ويقول الحق عن مواعيد الكشف عن أسرار الغيب المستور: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ...} [البقرة: 255].
وحين يشاء الله أن يكشف عن بعض أسرار الغيب فهو يحدد الوقت الذي يشاؤه لذلك، وكل شيء في الكون له ميعاد ميلاد؛ مثل: الكهرباء، والذرة، والوصول إلى القمر، وغزو الفضاء، وهذه كلها أشياء لها مواعيد ميلاد.
ويبحث العلماء عنها باستخدام المقدمات. ولكنهم لا يصلون إلى سر ميلاد أي اكتشاف إلا بإذن الله حين يلفتهم إلى هذا السرّ؛ إما بالبحث العلمي، وإما أن يتم معرفته صدفة.
وهكذا نجد أن البشر يُحَاطون عِلْماً بهذه الأسرار بعد مقدمات وبإذن من الله.
وما دام الحق سبحانه هو عالم الغيب؛ فيكون سبحانه عالماً بالشهادة من باب أولى، وقد يظن ظان أنه جلس في مكان معزول مستور ويفعل ما يريد، فلن يشهده الله؛ لأنه قد يفعل ما يريد دون أن يراه أحد، لكن ذلك غير حقيقي؛ لأن الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة، فلا يوجد مستور عنه في هذا الكون، فلا الغيب يغيب عن علمه، ولا العالم المشهود يغيب عن علمه.
وما دام قد جاء الحق هنا بقوله: {عَالِمِ الغيب والشهادة} فلابد أن يأتي من بعدها {يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يخبركم مقدماً بجزاء ما ستفعلونه من خير أو شر حتى لا يقول أحد: إنه لم يكن يعرف، أو أنه لو علم أن فعله يؤدي إلى الشر لما فعل؛ وحتى يكون كل إنسان شهيداً على نفسه؛ لأن الله أبلغه بالجزاء، فيكون الجزاء عدلاً لا ظلماً.
ولذلك يقول الحق سبحانه: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء: 14].
فأنت الذي تحكم على نفسك.
ويقول الحق بعد ذلك: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ...}.